Sunday, December 18, 2011

ليس اعتراضًا يارب.. ليس اعتراضًا


أنا بكيت ككل النساء في الجامع الازهر يوم جنازة الشهيد الشيخ عماد عفت، انتحبت لو صح القول وأنا أصرخ بالهتافات ضد المشير والمجلس العسكري والخونة الذين يقتلوننا بدم بارد في وضح النهار. كل النساء من حولي كن يرتدين الأسود وعيونهن وأنوفهن من شدة البكاء متورمة ومحتقنة، لكنني لم أستطع أن أحضن تلك السيدة التي كانت خلفي ونحن جالسين نساء ورجال بانتظار انتهاء الوصلة الخامسة أو السادسة من القرآن الذي حاول الشيوخ إسكاتنا به، غير عالمين أننا نحتد من أجله، من أجل حرمة النفس التي تحدث عنها الله في كتابه، الذي يساوي بين الناس جميعًا في حقهم في الحياة، ولم يفرق بين هؤلاء وأولئك، وما إذا كانوا "موالين للنظام" أو ضده.

أنا بكيت وانتحبت وصرخت بالهتاف وكلي غضب لم أعهده، لم أكن أبكي على الشيخ عماد، الحق أنه لم يأتِ ببالي إلا عندما أدركت أن السيدة التي لم أستطع أن أحضنها ورغم ذلك أبكتني نهنهاتها كانت زوجته. كنت أبكي الدم المهدور في كل الأرض، استباحة آدمية الإنسان الذي اعتبره الله خليفته متحديًا الملائكة، بكيت لأني عاجزة ليس في يدي حيلة، لأننا متخاذلون حتى وإن أفلتنا من الموت بأعجوبة في أي يوم من الأيام التي مازال يتم استهدافنا فيها حتى الآن.

أنا بكيت لأن أغلى ما على الأرض تشربه الرمال وتنساه، ولا يذكره الأحياء إلا باللعن أو الطعن أو اللامبالاة. بكيت لأني أدركت أن الله لم يخلقنا لهذا، وبكيت أكثر عندما فشل عقلي الصغير في إيجاد منطق لخلق كائن يتعذب بخلق آخر مثله. بكيت لأن الجامع الأزهر الذي دخلته لأول مرة، رغم كوني من سكان المنطقة لأكثر من 10 سنوات، كان مهيبًا، ويبتلع كل من فيه لكنه لا يواسي المرأة الثكلى التي تحتسب زوجها شهيدًا بين نهنهة وأخرى، لا يهدي سوى الطلاب الأجانب المبعوثين، أما أصحابه فينتظرهم الخطب العصماء الموالية للنظام داخله، وشاحنات الاعتقال أمامه. بكيت مسجدًا كان نورًا للحق، والآن يقف على منابره من ينكرون الحق وإن كان أوضح من شمس الله.

لم أر جثمان الشيخ، وكنت متأكدة أننا بانتظار رؤية نعشه للانفجار في بكاء أعلى و"حسبي الله ونعم الوكيل" خارجة من نياط القلوب تستصرخ هؤلاء الذين ينادون "بحرمة الموت" و"حرمة المسجد"، بينما يتجاهلون "حرمة دماء المسلم" ولو كانت بيد مسلم.. يا الله، ألهذا جعلت من علي وعثمان والحسين شهداء؟ ألهذا قبضت روح رسولك وهو من المعصومين؟ ألكي تكون مصيبتنا الآن أهون من كل ذلك؟!

أنا بكيت لأني شعرت بالقهر، العالم بأكمله يخذل روح إنسان استغاثت به. بكيت لأني أقل شرفًا من الذين ماتوا، لأني أنسى أحيانًا كما ينسى الناس وأستمر في حياتي كأن أحدًا لم يمت.

بكيت لأني سئمت عدم فهم مغزى كل ذلك، لأن الحكمة الإلهية في قبض أرواح شريفة رفضت الظلم وقررت أن تجاهر بكلمة الحق أمام سلاطين جائرة متجبرة، وترك ملايين الأرواح التي ماتت- وهي حية- وعفنت وينز قيحها علينا يوميًا، ليست واضحة لي.

أنا بكيت لأني رأيت المسيحيين يقفون معنا داخل ساحة المسجد ويؤازرون الناس، ويلتزمون الصمت وقت الصلاة، ويهتفون معنا بعدها، فيما المدعون بأنهم مسلمون ويريدون "تطبيق شرع الله" بطريقتهم ويعيثون فسادًا في الأرض يهتمون بالدنيا الزائلة ولا يهب الواحد منهم لنصرة عرض امرأة، حتى وإن كانت مسلمة، أما البقية منهم تتهمنا بالكفر!

أنا بكيت لأني كنت سببًا في كل تلك المأساة، عندما ظننت أن مشاركتي في انتخابات أعلم تمامًا الآن أنها فاسدة سوف تريح ضميري، ندمت بعد التصويت بيوم مباشرة، والآن أتحرك على جثث الشهداء، وغيري يقولون إن تلك الانتخابات المخضبة بالدماء هي الحل للتخلص من الدماء!

يا الله، لا أكفر بك أو برسلك أو بحكمتك التي استعصت على عقلي الصغير، فقط ألهمني الصبر والعزاء والبصيرة والقدرة على مواصلة الجهاد في الحق. يا الله، لا تمدهم في طغيانهم يعمهون، بل انزل بهم عذابك الشديد في أقرب وقت علّهم يرحمون الأرض من فسادهم لنستريح.


Wednesday, October 26, 2011

بالحب وحده إنت غالي عليَّ


ثم إنه نظر إليها، وأشعل سيجارتها وسيجارته، ولف ذراعه الأيسر حولها وقبلها في الجبين، فيما سحبت نفس من السيجارة، والتفتت للست بامتنان وهي تشير إليها بالإعادة. تململت الست وتحركت نصف خطوة للأمام، ثم رجعتها ثانية، وأغمضت عينيها مبتسمة: "بالحب أنا سلمت قلبي إليك...".




Sunday, September 25, 2011

الشعرُ يكره أحيانًا


هذه القصيدة غير صالحة للاستخدام الآدمي؛
فسدت لأني لم أضعها في ثلاجة الموتى
ولم أزينها بشرائط وردية
وألصق عليها ورودًا وفراشات.
قصيدتي لا تتكيف مع أحد،
لا تهادن أو تربت بهدوء على مشاعرك،
لا تجعلك تبتسم،
أو تتذكر: أها.. يمكنني أن أشعر بالراحة الآن!
قصيدتي ليست ورق تواليت،
ولا نشافة زيت،
لا تساعد المدمنين على لف السجائر فوقها
لأنها سوداء جدًا،
لن توصلك للحقيقة أو إلى أي مكان آخر.
قصيدتي لا تصلح للحكي أو الاختزال،
لا تصلح كجرافيتي على أحد الجدران
لأنها لن تقبل أن يتبول عليها أحد،
أو يطمسها بقصيدة جديدة «نظيفة مهذبة»...
هذه قصيدة تجادلك حتى تفقد آخر أنفاسك
وتضعك أمام نهاية ملتبسة
لا تعرف بعدها أتصفق
أم تملأ يدك بطماطم فاسدة
وتلقيها في وجه صاحبتها..

Sunday, September 11, 2011

السيرك


شخص ما سيعلّمني كيف أجعل كرهك محبة، ويذكّرني بأن ما دفعنا على التقليب في براميل الحياة فرحتنا أو أنني مخطئ بنفس القدر. وحتى مضارب اللوعة والمسبات التي أنستني لحظة التلاقي، ستحفر سكة إلى غفران ربما لا يناسبكَ لكنه كل شيء. يا من تحوّطك البهلوانات في سيرك نصبتَه بيديك: أنا صفوتُ حين كففتُ عن سماع صوتك؛ صرت أرجو لك الخير. ولعله يصلك وأنت تتنصل للأذى أو تناضل، رجائي.

وحين تعوي وحدتُك وسط جلبة القرود والكلاب ذات الفرو المنمق، تَرَى كيف صرتُ أسكن إليك: بلا أي رغبة أو إرادة، بلا إشارة إلى أنك هناك أو أننا كنا معاً والتأمنا أو حلمنا بإفراغ البراميل في المحيط وأنت باختيارك انتهيت. يا من تجلس وحيداً ومقتنعاً بعد جولة أخرى أمام بلياتشو يقودك بأنك انتصرت، تعتصم ضد كل أكروبات فضائي وتحرّض النمور على العصيان، وأنت تدس منشورات ثورتك الخرافية في خرطوم فيل بارك في الممر، وباسم الممكن الذي لا يمكن تُضرِب عن الطعام، أنت: شخص ما سيعلّمني كيف أرجو لك الخير.

يوسف رخا

Thursday, August 25, 2011

الأرض



أتذكر أن المشهدين الأكثر تأثيرًا في السينما المصرية اكتسبا أهميتهما من المقطوعة الموسيقية التي كانت تدور في الخلفية. أعني المشهدين اللذين يسببان لي ألمًا حقيقيًا في القلب؛ مشهد قتل هنادي (زهرة العلا) في فيلم «دعاء الكروان» وذعر آمنة أختها (فاتن حمامة) مع الموسيقى الرائعة التي وضعها الموسيقي الأجنبي (أندريه رايدر)، والمشهد الأخير في فيلم «الأرض» عندما تلقى محمود المليجي ضربات البندقية على رأسه وظهره، فيما كان دمه يسيل ليروي «الأرض العطشانة»، التي لحنها علي إسماعيل.

الخميس 3 فبراير، نقص الأدوية مع كثرة أعداد المصابين لم يمنعا روح المصريين المرابطين في ميدان التحرير من الارتفاع عنان السماء، أعلى من مئذنة عمر مكرم، و أعمدة النور التي تسلقها أحد الشباب الأبطال فيما بعد ليرفع علم مصر. في كل ركن كنت أرى مصابين، ضمادات أغلبها على الرؤوس وفوق الأعين، كان الملاعين يوجهون الحجارة بحيث تكون قاتلة، تماما كما كانت قوات «الأمن» تحاول حفظ «الأمن» بتوجيه الرصاص للقلوب والرؤوس.

كنت أهرول كالمجانين في الشوارع المحيطة بالميدان، كل المحلات مغلقة إلا بقال أو اثنين تشجعا في سبيل رزق لا ينافسهم فيه أحد، لا صيدليات، وكأن جملة «خدمة 24 ساعة» التي يتباهون بها صارت سبة. على حدود عابدين، لمحت صيدلية تبيع للزبائن من وراء باب حديدي. أظن أني أخذت كل ما لديهم من مضادات حيوية وقفازات طبية ولفافات الضمادات، لم يكن كافيًا، لا شيء كان بإمكانه سد الثقب الغائر في قلب تلك البلد، الثقب الذي اخترقته الرصاصات المتتالية حتى صار الدم في كل مكان.

كررت رحلتي مرتين حتى استسلمت، ثم عدت للميدان أتجول فيه كالسائحين وأفكر أنه من الصعب أن أكون قد شاركت في ثورة لم أحمل منها أثر جرح، أو حتى صورة.. الهتاف لا يعفي من الإحساس الممض أنك لم تفعل ما فيه الكفاية، أنك أقل من أقل جرح أصيب به آخرون كانوا بجوارك.

كان العشرات مازالوا واقفين على كوبري أكتوبر بانتظار أي فرصة لاستكمال الخيانة. أمام المتحف المصري أخذته فجأة في حضني. رجل أشيب الشعر، مصاب كالمصابين، يسير مهرولا باتجاه تمثال الشهيد عبد المنعم رياض، ويتمتم بكلمات غير مفهومة. كان يبكي بحرقة لا تناسب رجلا مصريا اعتدت منه أن البكاء «لا يليق بالرجال». بشكل غريزي بحت لا أفعله حتى مع أبي، جريت إليه واحتضنته، ربتت على كتفه وفهمت منه أن ابنه مات في المستشفى من إصابة يوم 28 يناير. بكينا سويا وهمهمت بأنهم «مش هيضيعوا» وأقسمت له مرارا وكنت متأكدة وقتها أني لن أترك أحدا يضيّعهم من أجل خاطر هذا الرجل الطيب.

الآن، كلما أتذكر أيام الميدان والبكاء والرصيف الذي ذهبت لأكمل بكائي عليه أمام تمثال عبد المنعم رياض والشهداء الذين ضاعوا أكثر من مرة دون أن أنجح في تنفيذ ما وعدت الرجل به، أحاول أن أتخيل الموسيقى التي كان يجب أن تكون في خلفية المشهد. لا أستطيع أن أفكر في الثورة التي يتحدثون عنها في كل مكان، إلا بالحضن الفجائي للرجل المفجوع، وأحيانا لا أذكر من كل الأيام التي قضيتها في الميدان إلا هذه اللحظة، تتضاءل حتى لحظة فرحتي بتنحي المخلوع أمام انكسار القلب ذلك الصباح الذي يبدو بعيدًا.

الآن، كلما مررت أمام المتحف المصري، أسمع الموسيقى التي تفطر القلب عندما انغرس الخنجر في قلب هنادي، وأرى كعب البندقية وهو ينزل على ظهر رجل أشيب الشعر دامع العينين، لا أعرف اسمه ولا أستطيع أن أحتضنه، أخفي عيني بعيدًا عنه لكي لا يتعرف عليّ، أو أتلبس بالدم فوق الأسفلت الأسود الذي لا ينبت مهما شرب منه.

Friday, August 12, 2011

كوميكس




الأزمة الوجودية هي التي تنبع من فمك بسلاسة، فيما نصفك الأسفل مقيد داخل صندوق، ونصفك الأعلى مربوط بسلسلة من بلالين الحوارات الفارغة. كل هذه الأشياء المجردة عظيمة، رائعة، أنت نفسك تختال ببساطة أمام كل مرآة تمر بك، لكن من أين يأتي الوجود الأعظم؟ من أين تكتسب الأزمة أهميتها وقدميك لا تطالان الأرض أصلا؟

على وجهك خرائط الفشل، وتجاعيد بسيطة لانتصارات صممت على الاحتفاظ بها كتذكرة بدلا من نذالة الأيام، الندبات الصغيرة تشي بكره عميق للذات، واشتعال وجهك بالألم يعكس حرقة القلب التي تصمم على أن تشكو منها لعديمي الوجوه.

في المرات القليلة التي استيقظت فيها ووجدتك نائما على غزال وليد، كانت الشمس تنأى باشمئزاز عن النافذة، وتذهب لتوقظ جارتك التي تستيقظ دائما على زوجها بين ذراعيها، وابنها المزعج يكسر شيئا ما بالمطبخ. الغزال لا يئن، لا يتحرك، الغزال ولد أصلا ميتا.. وجارتك تترك ابنها يكسر كل شيء مقابل لحظات مختلسة صباحا ربما تفرز غزالا بين قدميها بعد بضعة أشهر.

كل هؤلاء المرضى المدعين بنفوسهم المتقيحة وكلماتهم الملتوية التي يصفق لها الجهلاء لأنها تبدو معقدة ومهمة بشكل ما، يرحبون بك وبوجهك المشتعل وغزالتك الميتة وبلالينك البيضاء من غير سوء. تمعن في المشهد، واستمتع.. أشياء مثيرة على وشك الحدوث.

Tuesday, July 26, 2011

كائنات ليلية


الصداع المزمن في الصباح
القهوة التي تزيد من اضطرابات المعدة
الأشعار الناقصة
والجفون المنتفخة
الملحوظات المعلقة على الحائط
وجهاز الكمبيوتر المفتوح
الدولاب المهمل العالي
والملابس المتلاحمة داخله في فوضى
الصمت المتثاقل
والإفطار القابع مكانه أبدا
دون أن يمسسه أحد
بقايا البكاء
والأواني المتسخة
الدفاتر والروايات المبعثرة
فوق السرير، جواره، وتحته
الضوء المزعج المتروك منذ الليلة السابقة
الأحذية المغبرة والمعاطف المعلقة
السكون غير المبرر...

يشتاقون للشمس
وللصوت الآدمي الحميم..
الكائنات الليلية
غالبا
وحيدة


من ديوان "دون خسائر فادحة".. تحت الطبع

Wednesday, June 22, 2011

الاحتمالات المفتوحة للسكينة


تبكي بحرقة، وتنهنه، وتعيدها ثم تزيد، بينما المرأة الصغيرة بالعباءة السوداء تحاول الهدهدة، تغني، تحادثها بنغمات خفيضة "طب بصي المحلات، بصي طنط حلوة ازاي"، تهدأ بالتدريج لكنها تلوح بأطرافها في كل مكان.

ألتفت للجهة الأخرى حيث النافذة، أراقب ألوان الكشافات، والملابس المبهرجة، والزحام، وأحاول أن أفصل أذني عن الضجة غير المحتملة، وأفكر أن العالم في منتهى القسوة، جديّا وليس مبالغة أو مجازا، فجأة يستند على ساعدي شيئا ساخنا يختلج بشكل طفيف.

لا أنظر باتجاهه مباشرة، بل أكمل نظراتي الخاوية هذه المرة تجاه الألوان البشعة. أهدأ تماما، أرخي ساقيّ اللتين كانتا مشدودتين على أطراف الأصابع، أشعر بنبضات قلبي تنتظم ببطء، وأسحب شهيقا طويلا من أنفي، رغم عدم استطاعتي عادة التنفس إلا من فمي.

يرتخي ذراعي أكثر، أعدل من وضعي بهدوء ليناسب الكرة الصغيرة الساخنة المستريحة فوقه، والمرأة بجواري في الهاتف "حمى، لسة جاية من تبارك دلوقتي". أبتعد بعينيّ قليلا عن النافذة الرمادية، بنفس الطمأنينة أخفض رأسي للغافية وأقبلها. أكتشف بعد أن أنزل من الباص أن حقيبتي لا تتسع لكل هذه السكينة، وأن هناك فجوة بحجم رأس طفلة صغيرة فوق ساعدي الأيمن.

Wednesday, June 15, 2011

في مديح العبث

النهارات مرهقة، البدايات خادعة، المرارة المعتادة أسوأ من مرارة طارئة. يومًا ما، سأجد المعنى لكل هذا العبث، أو أجد عبثا منطقيا بما فيه الكفاية لأستغني عن المعنى. الشوارع تلفظ ناسًا، كراسي، مقاهي، محلات بقالة، قمامة، أطفال، موتى، أحبة، مجرمين، مياه، وأحيانا تلفظ أنفاسها فجأة، فأفقد توازني، ثم أستعيده وأفكر: أينا الثابت؟

أحاول أن أتذكر متى بالضبط فقدت «مراجيح المولد» بهجتها، متى اختفت الألوان وتركت لونين كابيين غير مفهومين مكانها، أو حتى من الذي يرى أن اللونين الأبيض والأخضر ملائمان دائما لمآذن المساجد الأثرية، أفشل. أنا لا أرضى بالفشل في إيجاد السبب، لابد أن هناك سببا ما، أنا لا أقبل أنصاف الحلول أو التنازلات أو الغيبيات هكذا، لكنني أصل لعلبة الكبريت المكونة من أربع حجرات قبل أن أجد السبب، وأنسى أنني يجب أن أرى المنطق في كل العبثيات بمجرد النظر في المرآة، ومحاولة تنظيم الأنفاس المتقطعة.

لا أحد يشعر بشرخ غير مفهوم من غصن شجرة مكسور بهمجية، لا أحد يمتن كفاية للأرصفة المرحبة بالأقدام، لا أحد يصمت ليسمع غيره، لا أحد ينظر.. لـيرى.

Thursday, May 12, 2011

البنت التي كلما قابلت فنجانا وضعت فيه سكر



لم أعد أهتم بالاحتفاظ بالمراكب الورقية الصغيرة التي أصنعها من تذاكر الباصات، صرت أوزعها على كل الناس، غرباء وأصدقاء، دون أن أهتم بترك جزءا مني معهم كما كنت أفعل زمان. حتى عندما أكتشف تكدس حقيبتي بهم، أتخلص منهم في أقرب سلة قمامة أو مطفأة. وأحيانا، لو أعجبني راكب غريب جواري في الباص، أو طفل غير مزعج، أمنحها له قبل أن أترك الباص كله بثوان.

لم أعد أحتفظ لك بالمراكب، توقفت عن تدوين كل الأشياء التي تستحق الحكي، أنا لم أعد أرغب في الحكي معك، لأنني اكتشفت أني حين ألقاك، أحكي معي، لي وحدي. لم أعد أتطفل على الدائرة المحيطة بك لأظل بجانبك أطول وقت ممكن، بل صرت أكره وجود الناس بشكل عام، ألقاهم وقتما ألقاهم، لم أعد "ذبابة لزجة"، كل شيء تغير. بعدما فشلت في إقناعك بمكعب سكر واحد في قهوتك السوداء دائما، أصبحت أُسقِط قطعة سكر في كل فنجان أمر به، وفيما يقلبه صاحبه، أذوب.

يمكنك أن تكتئب أكثر، فهذا أكثر ما تجيده بعد الكتابة، أو تشعر بالأسى من أجلي، رغم أنك لو كنت أكثر تركيزا فيما قلته لك لتذكرت أني أمقت "جو الصعبانيات"، يمكنك أن تحاول التخفيف عني بكلمات التنمية البشرية إياها، يمكنك أن تفعل كل شيء كان من الممكن أن تفعله، دون فائدة.

الدروس المستفادة:
ثقب القلب لا يلتئم، يبتلع كل شيء. هناك قطع بازل دائما في غير أماكنها، لا شيء يثير الدهشة، حتى لو كان شلالا من المياه في محطة مترو، أو راقصة باليه في سوق العتبة.

Saturday, May 07, 2011

خطط بديلة


في عز البرد
أغسل وجهي
بماء مثلج،
أغرق معصميّ
وأربت على القلب الساخن،
أغطي بالمنشفة كل الوجه،
وللحظة..
أود ألا أخرج منها أبدًا

Monday, April 25, 2011

لورا




الكوابيس المقيمة تهاجم فجأة وبضراوة؛ على المقاهي، الأرصفة، مقاعد المترو، و تخرج من شروخ الجدران التي تستند عليها. وقد تتجسد المأساة ببساطة في اشتباك حرف النون بالوردة المرسومة على تورتة خيالية، تحضّرها امرأة تعيش بين ميتتين لا تختلفان كثيرًا عن الواقع.

الكوابيس السابقة، تهدم الفكرة الأساسية للمادة، فهي لا تفنى، لكنها تستحدث من العدم، وكلما ظننت أنها "غارت" دون رجعة، تفاجئك كمهرج سخيف ينبثق من علبة مهجورة، أو شارع مررت فيه مرة، أغنية ما تحمل معاني ضحلة، رائحة أو "لازمة كلام"... تذكرك أن "ثباتك الانفعالي" وهم، وتثبت أن المهرجين ليسوا مضحكين على الإطلاق، بل مثيرون للرعب.

Photo: Laura Brown (starred by: Julianne Moore) in The Hours

Wednesday, April 20, 2011

أحياء عند ربهم يرزقون


و قد دل على أن الشرطة استعملت القوة المفرطة في مواجھة المتظاھرين ما يلى:-

1- كثرة الوفيات و الإصابات، إذ بلغ عدد القتلى حوالي 840 قتيلا و تعدت الإصابات عدة آلاف من المتظاھرين، وذلك جراء إطلاق الأعيرة النارية و القنابل المسيلة للدموع التي كانت تستعملھا
الشرطة. 

2- أن أكثر الإصابات القاتلة جاءت في الرأس و الصدر بما يدل أن بعضھا تم بالتصويب و بالقنص، فإن لم تقتل الضحايا فقد شوھت الوجه و أتلفت العيون، فقد كشفت الزيارات و أقوال الشھود و الأطباء- خاصة في مستشفى قصر العيني- أن المستشفيات قد استقبلت عددا ھائلا من إصابات العيون خاصة في يومي 28 يناير، 2 فبراير 2011 بلغ المئات و أن حالات كثيرة فقدت بصرھا. 

3- أصابت الطلقات النارية و الخرطوش التي أطلقتھا الشرطة أشخاصا كانوا يتابعون الأحداث من شرفات و نوافذ منازلھم المواجھة أقسام الشرطة. و غالبا كان ذلك بسبب إطلاق النار عشوائيا أو لمنعھم من تصوير ما يحدث من اعتداءات على الأشخاص.
 
4- طالت الأعيرة النارية أطفالا و أشخاصا تواجدوا مصادفة في مكان الأحداث.

5- سحقت سيارات الشرطة المصفحة عمدا بعض المتظاھرين.



Monday, April 18, 2011

في فضل الكابوس و جفاء الحبيب


وكان من أثره عندما اشتد الجفاء بينهما، وتعلق قلبه بغيرها، أن تباعدت المسافة بين جسديهما وروحيهما، كبعدها بين استحالة عودة الحب إلى قلبه وعودة البكارة إلى زوجه. وفي إحدى الليالي الليلاء، استيقظ مفزوعا من نومه الغطيط، على ضربة فوق رأسه منها.

كان استعداده أن يقتلها، لولا أنها ظلت تستجدي سماحه، وفي عينيها بين النوم واليقظة المذعورة، لأنها كانت تحلم بكابوس ولم تشعر إلا بيدها فوق رأسه. لم يأخذها في حضنه، ولم يطفئ نار الرعب بكوب من الماء، وإنما ظل يبرطم ويسب الدين والعيشة، ثم التف بالغطاء وخرج من المكان، تاركًا إياها عارية تنتفض. وأخرج قلبه قبل أن يرحل، فرماه في وجهها النعسان، وأقسم ألا يعاود المخبولة مرة ثانية.

أما هي، فتمثلت بعدها نبع ملآن من التوتر، تجفل كل لحظة بين اليقظة والمنام، تلف الغطاء حولها جيدا، وتردد أذكارها اليومية "يا أيها العقل التعس، إن جاءك رعب كابوسي فيه يقتلك أحدهم، فامتثل بهدوء، و"اذكر ربك إذا نسيت، وقل عسى أن يهدين ربي"، ولا تتفل عن يمينك أو يسارك، ولا تستعذ من شيطان، بل منك".

وفي الليالي جدباء النوم، يستحيل الكابوس شمسا حارقة، ويقض المضاجع ذكرى كل ما كان؛ من أول القلوب التي قلّبها الله بين يديه فأحبت، مرورا بالخبال المؤقت وزرقة الوجنات، ثم انتهاء بالقلوب التي قلبها الله بين يديه مرة أخرى فبغضت. ومازال قلب المرأة ينتفض ويلهج "يارب.. سلّم"، وتجفل ساقاها بين الحين والآخر، ثم تتعانق على فراغ.




Painting by: Nigel Van Wieck

Sunday, April 10, 2011

دوران متواصل بعيدًا عن المركز





ولم تكن تحتمي بحقيبتها من المتلصصين على الجسد أو الأشباح الوهمية التي تحاول اختراقها طوال الوقت، وإنما من نفسها، خشية أن تندمج مع العالم أكثر من اللازم، فتعود خائبة الرجاء من بعد لا مبالاة. ولم تكن الحقيبة نفسها تحوي شيئا يمكن أن يحمي، إذ امتلأت بالخيبات المتتالية وندوب الجسد والروح التي لملمتها من السنين، بينما كانت السنين تكرارا، يحب أن ينسى نفسه أحيانا، فيظن أن هذه المرة "الأمر مختلف".

العالم دائما لا يتغير. لا تعرف إلا الضالين، الوحيدين في الأرض أو الذين يخططون للهروب انتحارا أو بالرحيل إلى بلاد الله الواسعة.. بلاد الله واسعة لأنها ليست منها، وحين تكون، ستبحث عن بلاد أخرى لله تضيقها. أتباعها هم الذين يخسرون نقاط مباراتهم مع الحياة، الحب، والتجربة كل لحظة، وحين يأتون إليها يكونون متعبين جدا للمحاولة من جديد. أتباعها هم الذين لا حيلة لهم في أنفسهم، المفقودين الذين فشلوا في معرفة أين هم منذ زمن، الذين فقدوا أرواحهم عند محاولة التبشير ببعض منها، ولم يهتموا كفاية لاستعادتها من المؤمنين.

ومن واجباتها المستحقة للأتباع خلق ديكور جديد. الشوارع التي عرفوها وحفظوها تنوي أن ترتبها جوار أخرى في الطرف الآخر من المدينة، ربما هكذا يقل الوحيدين، أو يأنسون بغيرهم الذين يشبهونهم كثيرا، فقط لو عرفوا. لماذا لا تمنحهم المعرفة؟ النار المقدسة دون عذاب ساذج هذه المرة.. وربما تكون الحقيبة مجدية، إذ يبدو أن الحياة صارت تولد فقط من رحم الخيبة.







Monday, April 04, 2011

لعنات إبريل




أضطر إلى اختراق المياه التي أغرقت الشوارع بقدميّ، يقتحم تيار المياه الموحل الحذاء ويغرق الشراب القطني. ألعن كل شيء وأدبدب بقدمي على الأرض في محاولة يائسة لتفريغ الأقدام من الماء وتفريغ الغضب من القلب. كل الشوارع خالية، ما من أحد يستعد لتقديم يد المساعدة، ولا حتى كلمة مواساة واحدة. اللعنات تتوالى من فمي بعد أن أضطر لتكرار اختراق الوحل أكثر من مرة بسبب شوارع مصر العظيمة.


أعبر الشارع الرئيسي وأنا أحسب المعادلة سريعا في رأسي، لا يهم البنطلون ولا الكوتشي ولا الطين، المهم أن نجري سريعا من أمام السيارات التي لا ترى جيدا من قطرات الماء المطينة على زجاجها، ولا تردعها إشارة مرور واحدة أو يوقفها عسكري مرور في هذا الوقت اللعين.

على الرصيف أكتشف المأساة، لكي أستطيع الركوب يجب أن أعود من خلال المياه الجارية لمسافة مترين وأقف في نصف الطريق مثلا، إن وجدت شيئا من الأساس. أقرر المضي عكس اتجاه المياه إلى الأمام. الحظ الرائع يلاحقني، سائق مكروباص لطيف يأتي بكل سرعته ليغرقني بالمياه إلى رأسي، نعم.. هي نفس المياه الموحلة التي مررت فيها منذ قليل. يلعب الحظ لعبته دائما معي، أنجو مرة من المطر، فيغرقني سائق أعمى القلب والنظر بالمياه والطين، أو أنجح في العبور دون الخوض في مياه الأسفلت، فتقرر السماء أن تغرقني بكرم لا حدود له.

أستمر في الحسابات المعقدة في رأسي، 25 جنيه للتاكسي، وفي جيبي 35.. وأحتاج فورا لشريط "كونجستال"، يطمئن عقلي قليلا. تاكسي وراء الآخر يرفض، أبدأ اللعنات بصوت أعلى قليلا عن "البيه السواق" و "امال عايزين يروحوا فين بروح أمهم؟" إلى أن يوافق سائق بعدها بنصف ساعة، لكنه يأنف من الوقوف بمحاذاة الرصيف الذي أقف عليه، فأضطر للجري ورائه والخوض في الوحل والمياه للمرة العاشرة.

"مصر تغرق في شبر مياه"، أهز رأسي وأوافق السائق العجوز ذي الصوت الأجش، وأتمم على كلامه "لو بس يخلوا عندهم شوية ضمير في سفلتة الشوارع". يستمر اللغو وأبدأ في الهمهمة وهز الرأس بشكل متكرر، دون أن أعي شيئا مما يقوله، لكنني أميز أشياء لطيفة مثل "مظاهرات إيه؟ دي قلة أدب"، "الدنيا متغرقة وهما مش فارق معاهم برضو ملقحين هناك".

يتزامن وضعي للسماعات في أذني مع دخولنا منطقة وسط البلد. خالية تماما، الحفر الطافحة بالماء تعكس الأضواء المصفرة، وأفكر "طب والله العظيم دي حاجة بديعة". أحاول ألا أركز كثيرا مع قدمي التي فقدت الإحساس بها تقريبا بسبب الماء والبرد. الست فيروز تقنعني مرارا وتكرارا "إيه فيه أمل"، والحاج السائق مازال يرطن بنفس الحماس، إلا إنني اكتشفت أنه يتحدث عن جمال عبد الناصر الآن.

في البيت، أكتشف أني نسيت كومة غسيل محترمة على الحبل منذ أمس، و نسيت شريط "الكونجستال"، كما أني دخلت بالفعل على السجادة بالكوتشي المطين. ولم يكن أمامي شيئا آخر أفعله سوى أن أكيل لفيروز نفسها اللعنات وقتها.. قال أمل قال!


Thursday, March 31, 2011

لولا أنه رحل أولاً




لا شيء
يجمع غريبين،

طعامهما غُصة،
سوى برودة المكيف،
وجودة السَلطة،
و وحدة..
موزعة بالتساوي
بين طاولتين،
تواجه كل منهما
جدارًا منفردًا


Painting by: Edward Hopper

Tuesday, March 29, 2011

من ضمن حاجات كتير


الابتذال
فيونكة فوشيا
فوق هدية
لواحدة بطلت تحبها
ولسة بتمثلوا إنكم أصحاب

Thursday, March 24, 2011

عندما كتب عبد المنعم رمضان عن أنسي الحاج


كلام "غامض" إلى أنسي الحاج
عبد المنعم رمضان



هذا الذي أكتبه الآن، سيكون غامضاً، غموض أنسي الحاج، وغموضي، وغموضنا جميعاً. الشاعر هو أول شخص يحاول أن يتحرر من تمثيل دوره. وتمثيل الدور يعني أن تعمل دائماً بحسب الأصول المرعية. وفي كل جوانب حياتنا نقدر ألا نشذ، ولكن في الشعر، وربما في الحب، إذا لم تعرف متعة الخروج على المألوف لن تعرفهما أبداً، بخاصة في الشعر. إنه المثل الأعلى على سقوط الأصول، فكل عمل آخر يستوجب دوراً. إتقان هذا العمل يعادل أن تمثل هذا الدور بأقصى قدرة، بأقصى طاقة. في الشعر سوف يسقط الشاعر في بئره الجافّة إذا فكر بالدور الذي يجب أن يمثله، ولو بإتقان، وعندما يمثل الشاعر دوراً، تكون القصائد أمامه على الطاولة. يكون صياداً فقط، بدل أن يكون صياداً وفريسة في آن واحد. ولأنه تعوَّد، وكذلك تعوَّد الناس أنها، أي القصائد، يجب أن تختلط بجسده، يجب أن يعجنها ببخار أنفاسه وعرق جسمه، وغالباً، ونتيجة لذلك، تكون القصائد زنخة، لا عقلانية. وسخة لكن أنوف الناس لا تشم رائحة القصائد، ولذا يقبلون عليها، كأنها زهرة يجب أن تقتطف، ثم يجب أن يُحتفظ بها. تبدو القصيدة إذن، وكأنها انغماس كامل في الحياة، عندما لا يوجد عدو ظاهر لها، عدو تنشغل به، عدو اسمه الموت.

والشاعر الذي يشبه الشاعر، الشاعر الذي يشبه أنسي الحاج، هو ذلك الشخص الذي يمكن أن نسمعه يحدث نفسه: أنا الرجل المملوء بالقصائد، أنا الرجل الذي سوف تخرج القصائد كلها من جسدي، أريد أن أمشي، أريد أن أفرغ جسدي مما يملأه، ربما ساعتها أستطيع أن أطير. ولكن الغريب أن القصائد عندما تخرج، تخرج ناقصة، تاركة ذيولها التي تنمو مجدداً. حتى الآن لم أستطع أن أستمتع بجسد فارغ. حتى الآن لم أستطع أن أطير. ولما يصمت أنسي، تطاردنا الأمثال والأقوال، أنسي هو الأنقى بيننا، هذا ما ورد في رسالة أدونيس إلى خالدة. كان أنسي في أثناء ذلك هو الشاعر الإنسان الهدام بامتياز، الراديكالي بامتياز، السريالي بامتياز أيضاً. بدأ من كتابه «لن» باحثاً عن بئره العميقة، وعن حريته وعن الوجازة، وعن التوهج، وعن المجانية. بدأ أيضاً باحثاً عن الكثافة، كثافة الصياد والفريسة، في ثقافة تحتفل دائماً، بالصياد فقط، ثقافة ذكورها ذكور، وإناثها ذكور. انظر إلى آخر نجومها الشعريين، استمر أنسي حتى ثمل وبلغ بسكرته «الرأس المقطوع» كتابه الثاني، وبعدها بلغ ذروته في الماضي، ماضيه هو، أو «ماضي الأيام الآتية». رأى أنسي ضرورة أن يخون، ونظر إلى التقليد الشعري المعرِّي، وخانه، باعتبار أن هذه الخيانة عمل طبيعي، فعلاقة شاعر أيامنا بأسلافه الجاهليين الأمويين العباسيين النهضويين هي علاقة إخلاص لا تصح إلا إذا انقلبت وأصبحت علاقة خيانة.

رأى أنسي أن الشعراء حوله، إما سدنة في معبد اللغة، وإما مستهلكون لها كأداة توصيل واتصال، ولم يشأ أن يصير سادناً - فريسة، كما لم يشأ أن يعيش مستهلكاً - صياداً، وفكر في الخروج عن اللغة، ومن اللغة، وعلى اللغة، فكر في الدخول إليها، فكر في اختراع لغة داخل لغته، وليس اختراع أبجدية خارج أبجديته، وليس تدمير لغة، محض اختراع، اللا مألوف في المألوف، أو مألوف اللا مألوف، تجانس اللا تجانس. وفي محاولته تلك خرج على القوالب، وفرح، أطاح الزوائد وفرح، تعامل مع الكلمة المبتذلة، وسمى الأشياء بأسمائها، واخترق المحرم، وفكر أن يثأثئ ويفأفئ، فكر أن يهذي، وأعطى عقله الصاحي مهلة، وجرب إمكانات لا وعيه، إمكانات الغموض فيه. كان ماؤه يخرج من بئره العميقة، وليس من بئر العالم المحيط به، وظل هكذا يمشي من سرطان نفسه إلى سرطان اللغة. كان يمشي ويستأصل، كان يمشي على حبل من النزق، على حبل من الرغبة في القطيعة، وفي دواوينه الثلاثة، لم ينس قط قولة ماكس جاكوب، كي تكون شاعراً حديثاً، يجب أن تكون شاعراً كبيراً جداً، وكبيراً جداً تعني أن تصل بالصياد والفريسة معاً إلى آخر آفاقهما. ولم ينس أن كتابة الشعر فعل مجاني، دون فائدة، دون نفع، دون دون، سوى محاولة التغلب على الاختناق، وظل يكتب الشعر كأنه مغلوب على أمره، ولم يهتم - في الظاهر - بما نطلق عليه البناء والمعمار، لم يهتم - في الظاهر - بالصبغة، كان اهتمامه الأكبر بقبول الخسارة. أدرك أنسي طوال دواوينه الثلاثة أن هندسة القصيدة فعل معاد. وكان جنون أنسي يقوم على أساس من التعاطف القليل مع العالم الخارجي، إذا شئت قل من عدم التعاطف.

لكن أنسي الشاب الذي كان بلا أسلاف عرب، والذي أراد أن يكون أخلافه خصومه، كانت راديكاليته سبباً في عزلته، فالثقافة العربية تحب نصف الراديكالي، وتهيئ له المسرح، وتوزع صورته كبيان افتتاحي. فعلت هذا مع السياب وجعلته أميراً على قصيدة التفعيلة في زمن ريادته. وفعلت هذا مع محمود درويش وجعلته أميراً تالياً في الزمن التالي. وأيضاً فعلت هذا مع الماغوط، وجعلته الأمير على قصيدة النثر. الماغوط الذي لم يصطدم اصطدام أنسي مع القول الشعري، والذي لم يقم مثله بتحريف التجريب وتجريفه، وتحويله إلى تخريب حيوي مقدس أو مدنس، الماغوط الذي امتلأت الأرض العربية بأطفاله امتلأت بسلالته، الأصح بسلالاته، أغلبها مشوه. الماغوط الذي تناسب غضبه مع حجم الغضب الذي تقبله ثقافته، فصار غضبه بمقاس التابوت الذي أعدته هذه الثقافة لأعلامها. التابوت الذي يصعد كعنوان لحياة الماغوط الطيب. بعد ماضي الأيام الآتية، أحس أنسي بالتعب، فكان أصغر الشعراء الشيوخ، وكتب «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة»، وكتب «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، وكتب «الوليمة»، و «الوليمة»، و «الوليمة»، وفيها جميعاً تأكدت سنوات عمره بخطابه الرسولي العارف، والمنتظر للمخلص، تأكدت سنوات عمره باعتماد النفس الغنائي، لم يكن موجوداً من قبل، باعتماد التكرارات لصناعة هذا النفس، لم تكن موجودة من قبل بالبحث عن المشترك العام، عن الوعاء العام، سواء في المسيح، أو في الشعور بالخيبة، أو في الحب العاطل من الأنا العميقة، أو في الترنيم. أصبحت الأنا آسيانة أكثر. هل كان أنسي يائساً، هل شعر من جراء فرادته وفرديته بالوحشة، هل أراد أن يمشي في قطيع، هل وجد أن القطيع يتميز أكثر بعباراته المكتملة الواضحة، بكثرة تشبيهاته، وقلة هذيانه، بأيروسيته الخجول، حتى إذا تبجح، بانكفائه على بئر يجري ماؤها في جسد امرأة، خرج أنسي إلى العالم الخارجي، بعده لم تكن تصلح له، فظل جميلاً، ذلك الجمال المحتمل المتوقع، بعد أن كان يفاجأ بجمال وحشي، ومع ذلك فهو جمال على احتماله وتوقعه ممسوس يفوق جمالهم. شعر أنسي الأول، كان يحتاج إلى نخبة واسعة تقوم بحمايته، ولم توجد ولن توجد.

كانت النخبة مثل غيمة تزيحها دائماً الشمس الوقحة، شمس الجماعة، الشمس الوقحة بزعمها أنها صانعة النور. الأدهى أنها، أي النخبة، تضاءلت وانكمشت مساحتها فوق أرضنا، وفوق كل أرض رفعوا فوقها رايات التنوير. والتنوير العالمثالثي هو استبداد معكوس. انهار أنسي نفسه، انشغل بالدفاع، بمقاومة أن يصبح شيخاً، أنسي الذي ولد بعد حرب أهلية، وعاش حربه المبكرة مع سنوات عمره في ظل حرب أهلية ثانية. وفي ما بين الحربين ظهرت مغامرة أنسي كرحلة أولها الذهاب نحو الذات، وآخرها محاولة الخروج من الذات، لولا الصمغ العالق، أولها السريالية، وآخرها الرسولية، المبشرة بسقوط الصمغ. كان مثل حيوان أسطوري مخيف، يلتهم داخله وداخله لا ينفد، ولما تعب حاول أن يكنس براز العالم الذي يحيطه. ومع ذلك لا يمكن أن تزعم وأنت مطمئن تماماً، أن كتابة أنسي كانت في غياب أية رقابة يمارسها العقل، لا يمكن أن تزعم تماماً، أنها كانت خارج كل اهتمام جمالي، الأرجح أنها خارج كل اهتمام أخلاقي بدرجة واسعة، هذا هو ما جعل شعر أنسي يدخل السريالية من نافذة ويخرج عليها من نافذة أخرى. آه، يقول تروتسكي في ما يخص الفن، نحن كلنا فوضويون، كلنا فوضويون، من منا يرث كراهية ستالين، ولا يرث محبة تروتسكي. لعله أنسي.

خطوات الزمن الفارقة بين أندريه بروتون وأنسي استطاعت أن تجعل صورة تروتسكي تشحب بعض الشيء. استطاعت أن تصنعها تحت شجرة للبكاء والنوم، ولكنها لم تستطع أن تضع الشعر في متناول الجميع بدلاً من احتكار النخبة، وكذا لم تستطع أن تضع الشعر في متناول النخبة بدلاً من احتكار الجميع. هل ستحاول مثلي أن تتخيل صفوف البوتيكات أو السوبر ماركات في شارع الحمرا، أن تتخيل دار النهار أو المكتبة العصرية، أن تتخيل زوجتك أو أباك، أن تتخيل لبنان كله. لبنان المركنتيلي المشوه أحياناً، الناصع أحياناً. إذا حاولت مثلي، ستحب أن تقرأ أنسي، ستحب أن تكتب عنه، ستحب أن تتذكر أنه لما بدأ أنسي بأبحاث طويلة عن الموسيقى، كتبها وهو في البكالوريا، ونشرها في مجلة «الأديب» لصاحبها ألبير أديب. ولما كتب قصصاً نشرها في مجلة «الحكمة» التي كان يرأس تحريرها فؤاد كنعان صاحب الكتب الفارقة: «قرف»، «كأن لم يكن»، «على أنهار بابل»، «أولاً وآخراً وبين بين»، «مديرية كان وأخواتها»، والذي في مصر لا يعرفه أخيارنا، ولم يسمع باسمه أشرارنا. مصر ذات التبلات التي ذبلت أو تكاد تذبل وهي مغلقة على ذاتها.

تنبأ السيد فؤاد حداد، وهو غير الشاعر فؤاد حداد، تنبأ للكاتب العصبي أنسي الحاج بخير سيجنيه ذات يوم. كان هذيان أنسي ملجوماً وغير ملجوم، وكانت قصيدته عند البعض تشبه الحكاية، تشبه نشيد الإنشاد، هو يسميه نشيد الأناشيد، كانت قصيدته لا تتساهل ولا تقدم تنازلات أمام رغبات القراء، تتعمد اللامبالاة، وتحرث القلق والعبث، وتفيض بالحيل، حتى إن الخلاص كان حيلة. يرصد السريالي الآخر، المجنون الآخر، الألثغ كطفل، البريء كطفل. يرصد شوقي أبو شقرا زميله الذي شاركه مرة في كتابة قصائد «أين كنت يا سيدي في الحرب». يرصد شوقي لغة «لن» المليئة بالمرض والهذيان، والفكاهة القاحلة، واللذائذ المبعثرة والذكريات الجريئة. قصيدة أنسي تعلمت من نفسها ألا تعرف الميوعة. الميوعة التي أخطر آفات قصيدة النثر. فالذات عند أنسي ليست مائعة، على رغم أنها بئر بلا قرار، والعالم ليس مائعاً على رغم غموضه. رفض قصيدة أنسي للميوعة يتعزز برفض آخر لبدوية أو رعوية ظهرت عند آخرين، ورفض ثالث لتنسك صوفي مهما كان الشعور بالإثم حارقاً وصرفاً. بدأ أنسى في أكل الخبز الجاف، مثل أكله لثمرة اليقين المطلق، لثمرة الفرح. وكان وهو يقضم يحس وكأنه يصل إلى نبضة الكائن. نبضة الكائن في العضلة ذاتها، في الطريق ذاتها، طريق المخلص، الذي يسمح للإنسان فقط أن يحيي مأساة العالم، وسيسمح له أيضاً بإمكان الحياة وخلق الشعر، وكأن أنسي، وهو يخرج من نفسه ويدخل العالم، يدخل كواقعي، ولكن كواقعي من قماشة الواقعية الصوفية، كأنه يقدم فكراً - واقعاً في عجينته الأولى، في حالته الخام.

هل استطاع شعر أنسي في أطواره المختلفة أن يتعرف المرأة ذاتها، أم وضعها داخل إطاره، تحت آلته، بحيث تشبه كل شيء، تشمل كل شيء، تحيط بكل شيء، وتكون بؤرة كل شيء، وما لا تستطيعه أبداً هو أن تكون ذاتها؟ محيت المرأة ليتأكد الحب، خسارة فادحة، وربح فادح. أراد أن يوزع جسم المرأة على العالم، فلما لم يستطع ذلك، رغب في أن يفجره لتتكون من الشظايا، تلك المرأة الكون، تلك المرأة العالم، مع العلم أن مرجعية أنسي تستند إلى قوى هدم العالم، إلى اللاوعي الواعي بشعوذته وأحلامه، ولا منطقيته، وعلى النقيض من رفيقه الماغوط، الذي حملت عبارته كل الجينات الدالة على أصل، على ثقافة أنتجها هذا الأصل، على هوية، كان أنسي ينتصر بغياب مرجعيته على سلطة الهوية واستبدادها، وكان شعره بالتالي يقترب من حافة الهاوية، يقترب من أن يكون بغير أصل، يقترب من الشعر، من هذا الشعر. تخيلت مرة، وقد أوشك كتابه الأول أن يبلغ من العمر نصف القرن، تخيلت أنني أقابل أنسي وأحاوره، ولكنه أجاب على كل أسئلتي بإجابة واحدة، سألته: كيف ترى حرية البالغين، لماذا تنتشر في كل الأرض جثث قصيدة النثر، لماذا انحنى رأسك وأنت تنظر إلى أيامنا، وأنت تعبرها، وأنت تنظر خلفك، كانت إجابة أنسي الوحيدة هكذا، يزوم ويغمغم ويصمت، يزوم ويغمغم ويصمت.

Thursday, February 03, 2011

مصر.. حرة










الشعب يريد إسقاط النظام

 الشعب يريد إسقاط الرئيس.. ومحاكمته

الشعب يريد


وهذا.. كاف جدا