Thursday, March 31, 2011

لولا أنه رحل أولاً




لا شيء
يجمع غريبين،

طعامهما غُصة،
سوى برودة المكيف،
وجودة السَلطة،
و وحدة..
موزعة بالتساوي
بين طاولتين،
تواجه كل منهما
جدارًا منفردًا


Painting by: Edward Hopper

Tuesday, March 29, 2011

من ضمن حاجات كتير


الابتذال
فيونكة فوشيا
فوق هدية
لواحدة بطلت تحبها
ولسة بتمثلوا إنكم أصحاب

Thursday, March 24, 2011

عندما كتب عبد المنعم رمضان عن أنسي الحاج


كلام "غامض" إلى أنسي الحاج
عبد المنعم رمضان



هذا الذي أكتبه الآن، سيكون غامضاً، غموض أنسي الحاج، وغموضي، وغموضنا جميعاً. الشاعر هو أول شخص يحاول أن يتحرر من تمثيل دوره. وتمثيل الدور يعني أن تعمل دائماً بحسب الأصول المرعية. وفي كل جوانب حياتنا نقدر ألا نشذ، ولكن في الشعر، وربما في الحب، إذا لم تعرف متعة الخروج على المألوف لن تعرفهما أبداً، بخاصة في الشعر. إنه المثل الأعلى على سقوط الأصول، فكل عمل آخر يستوجب دوراً. إتقان هذا العمل يعادل أن تمثل هذا الدور بأقصى قدرة، بأقصى طاقة. في الشعر سوف يسقط الشاعر في بئره الجافّة إذا فكر بالدور الذي يجب أن يمثله، ولو بإتقان، وعندما يمثل الشاعر دوراً، تكون القصائد أمامه على الطاولة. يكون صياداً فقط، بدل أن يكون صياداً وفريسة في آن واحد. ولأنه تعوَّد، وكذلك تعوَّد الناس أنها، أي القصائد، يجب أن تختلط بجسده، يجب أن يعجنها ببخار أنفاسه وعرق جسمه، وغالباً، ونتيجة لذلك، تكون القصائد زنخة، لا عقلانية. وسخة لكن أنوف الناس لا تشم رائحة القصائد، ولذا يقبلون عليها، كأنها زهرة يجب أن تقتطف، ثم يجب أن يُحتفظ بها. تبدو القصيدة إذن، وكأنها انغماس كامل في الحياة، عندما لا يوجد عدو ظاهر لها، عدو تنشغل به، عدو اسمه الموت.

والشاعر الذي يشبه الشاعر، الشاعر الذي يشبه أنسي الحاج، هو ذلك الشخص الذي يمكن أن نسمعه يحدث نفسه: أنا الرجل المملوء بالقصائد، أنا الرجل الذي سوف تخرج القصائد كلها من جسدي، أريد أن أمشي، أريد أن أفرغ جسدي مما يملأه، ربما ساعتها أستطيع أن أطير. ولكن الغريب أن القصائد عندما تخرج، تخرج ناقصة، تاركة ذيولها التي تنمو مجدداً. حتى الآن لم أستطع أن أستمتع بجسد فارغ. حتى الآن لم أستطع أن أطير. ولما يصمت أنسي، تطاردنا الأمثال والأقوال، أنسي هو الأنقى بيننا، هذا ما ورد في رسالة أدونيس إلى خالدة. كان أنسي في أثناء ذلك هو الشاعر الإنسان الهدام بامتياز، الراديكالي بامتياز، السريالي بامتياز أيضاً. بدأ من كتابه «لن» باحثاً عن بئره العميقة، وعن حريته وعن الوجازة، وعن التوهج، وعن المجانية. بدأ أيضاً باحثاً عن الكثافة، كثافة الصياد والفريسة، في ثقافة تحتفل دائماً، بالصياد فقط، ثقافة ذكورها ذكور، وإناثها ذكور. انظر إلى آخر نجومها الشعريين، استمر أنسي حتى ثمل وبلغ بسكرته «الرأس المقطوع» كتابه الثاني، وبعدها بلغ ذروته في الماضي، ماضيه هو، أو «ماضي الأيام الآتية». رأى أنسي ضرورة أن يخون، ونظر إلى التقليد الشعري المعرِّي، وخانه، باعتبار أن هذه الخيانة عمل طبيعي، فعلاقة شاعر أيامنا بأسلافه الجاهليين الأمويين العباسيين النهضويين هي علاقة إخلاص لا تصح إلا إذا انقلبت وأصبحت علاقة خيانة.

رأى أنسي أن الشعراء حوله، إما سدنة في معبد اللغة، وإما مستهلكون لها كأداة توصيل واتصال، ولم يشأ أن يصير سادناً - فريسة، كما لم يشأ أن يعيش مستهلكاً - صياداً، وفكر في الخروج عن اللغة، ومن اللغة، وعلى اللغة، فكر في الدخول إليها، فكر في اختراع لغة داخل لغته، وليس اختراع أبجدية خارج أبجديته، وليس تدمير لغة، محض اختراع، اللا مألوف في المألوف، أو مألوف اللا مألوف، تجانس اللا تجانس. وفي محاولته تلك خرج على القوالب، وفرح، أطاح الزوائد وفرح، تعامل مع الكلمة المبتذلة، وسمى الأشياء بأسمائها، واخترق المحرم، وفكر أن يثأثئ ويفأفئ، فكر أن يهذي، وأعطى عقله الصاحي مهلة، وجرب إمكانات لا وعيه، إمكانات الغموض فيه. كان ماؤه يخرج من بئره العميقة، وليس من بئر العالم المحيط به، وظل هكذا يمشي من سرطان نفسه إلى سرطان اللغة. كان يمشي ويستأصل، كان يمشي على حبل من النزق، على حبل من الرغبة في القطيعة، وفي دواوينه الثلاثة، لم ينس قط قولة ماكس جاكوب، كي تكون شاعراً حديثاً، يجب أن تكون شاعراً كبيراً جداً، وكبيراً جداً تعني أن تصل بالصياد والفريسة معاً إلى آخر آفاقهما. ولم ينس أن كتابة الشعر فعل مجاني، دون فائدة، دون نفع، دون دون، سوى محاولة التغلب على الاختناق، وظل يكتب الشعر كأنه مغلوب على أمره، ولم يهتم - في الظاهر - بما نطلق عليه البناء والمعمار، لم يهتم - في الظاهر - بالصبغة، كان اهتمامه الأكبر بقبول الخسارة. أدرك أنسي طوال دواوينه الثلاثة أن هندسة القصيدة فعل معاد. وكان جنون أنسي يقوم على أساس من التعاطف القليل مع العالم الخارجي، إذا شئت قل من عدم التعاطف.

لكن أنسي الشاب الذي كان بلا أسلاف عرب، والذي أراد أن يكون أخلافه خصومه، كانت راديكاليته سبباً في عزلته، فالثقافة العربية تحب نصف الراديكالي، وتهيئ له المسرح، وتوزع صورته كبيان افتتاحي. فعلت هذا مع السياب وجعلته أميراً على قصيدة التفعيلة في زمن ريادته. وفعلت هذا مع محمود درويش وجعلته أميراً تالياً في الزمن التالي. وأيضاً فعلت هذا مع الماغوط، وجعلته الأمير على قصيدة النثر. الماغوط الذي لم يصطدم اصطدام أنسي مع القول الشعري، والذي لم يقم مثله بتحريف التجريب وتجريفه، وتحويله إلى تخريب حيوي مقدس أو مدنس، الماغوط الذي امتلأت الأرض العربية بأطفاله امتلأت بسلالته، الأصح بسلالاته، أغلبها مشوه. الماغوط الذي تناسب غضبه مع حجم الغضب الذي تقبله ثقافته، فصار غضبه بمقاس التابوت الذي أعدته هذه الثقافة لأعلامها. التابوت الذي يصعد كعنوان لحياة الماغوط الطيب. بعد ماضي الأيام الآتية، أحس أنسي بالتعب، فكان أصغر الشعراء الشيوخ، وكتب «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة»، وكتب «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، وكتب «الوليمة»، و «الوليمة»، و «الوليمة»، وفيها جميعاً تأكدت سنوات عمره بخطابه الرسولي العارف، والمنتظر للمخلص، تأكدت سنوات عمره باعتماد النفس الغنائي، لم يكن موجوداً من قبل، باعتماد التكرارات لصناعة هذا النفس، لم تكن موجودة من قبل بالبحث عن المشترك العام، عن الوعاء العام، سواء في المسيح، أو في الشعور بالخيبة، أو في الحب العاطل من الأنا العميقة، أو في الترنيم. أصبحت الأنا آسيانة أكثر. هل كان أنسي يائساً، هل شعر من جراء فرادته وفرديته بالوحشة، هل أراد أن يمشي في قطيع، هل وجد أن القطيع يتميز أكثر بعباراته المكتملة الواضحة، بكثرة تشبيهاته، وقلة هذيانه، بأيروسيته الخجول، حتى إذا تبجح، بانكفائه على بئر يجري ماؤها في جسد امرأة، خرج أنسي إلى العالم الخارجي، بعده لم تكن تصلح له، فظل جميلاً، ذلك الجمال المحتمل المتوقع، بعد أن كان يفاجأ بجمال وحشي، ومع ذلك فهو جمال على احتماله وتوقعه ممسوس يفوق جمالهم. شعر أنسي الأول، كان يحتاج إلى نخبة واسعة تقوم بحمايته، ولم توجد ولن توجد.

كانت النخبة مثل غيمة تزيحها دائماً الشمس الوقحة، شمس الجماعة، الشمس الوقحة بزعمها أنها صانعة النور. الأدهى أنها، أي النخبة، تضاءلت وانكمشت مساحتها فوق أرضنا، وفوق كل أرض رفعوا فوقها رايات التنوير. والتنوير العالمثالثي هو استبداد معكوس. انهار أنسي نفسه، انشغل بالدفاع، بمقاومة أن يصبح شيخاً، أنسي الذي ولد بعد حرب أهلية، وعاش حربه المبكرة مع سنوات عمره في ظل حرب أهلية ثانية. وفي ما بين الحربين ظهرت مغامرة أنسي كرحلة أولها الذهاب نحو الذات، وآخرها محاولة الخروج من الذات، لولا الصمغ العالق، أولها السريالية، وآخرها الرسولية، المبشرة بسقوط الصمغ. كان مثل حيوان أسطوري مخيف، يلتهم داخله وداخله لا ينفد، ولما تعب حاول أن يكنس براز العالم الذي يحيطه. ومع ذلك لا يمكن أن تزعم وأنت مطمئن تماماً، أن كتابة أنسي كانت في غياب أية رقابة يمارسها العقل، لا يمكن أن تزعم تماماً، أنها كانت خارج كل اهتمام جمالي، الأرجح أنها خارج كل اهتمام أخلاقي بدرجة واسعة، هذا هو ما جعل شعر أنسي يدخل السريالية من نافذة ويخرج عليها من نافذة أخرى. آه، يقول تروتسكي في ما يخص الفن، نحن كلنا فوضويون، كلنا فوضويون، من منا يرث كراهية ستالين، ولا يرث محبة تروتسكي. لعله أنسي.

خطوات الزمن الفارقة بين أندريه بروتون وأنسي استطاعت أن تجعل صورة تروتسكي تشحب بعض الشيء. استطاعت أن تصنعها تحت شجرة للبكاء والنوم، ولكنها لم تستطع أن تضع الشعر في متناول الجميع بدلاً من احتكار النخبة، وكذا لم تستطع أن تضع الشعر في متناول النخبة بدلاً من احتكار الجميع. هل ستحاول مثلي أن تتخيل صفوف البوتيكات أو السوبر ماركات في شارع الحمرا، أن تتخيل دار النهار أو المكتبة العصرية، أن تتخيل زوجتك أو أباك، أن تتخيل لبنان كله. لبنان المركنتيلي المشوه أحياناً، الناصع أحياناً. إذا حاولت مثلي، ستحب أن تقرأ أنسي، ستحب أن تكتب عنه، ستحب أن تتذكر أنه لما بدأ أنسي بأبحاث طويلة عن الموسيقى، كتبها وهو في البكالوريا، ونشرها في مجلة «الأديب» لصاحبها ألبير أديب. ولما كتب قصصاً نشرها في مجلة «الحكمة» التي كان يرأس تحريرها فؤاد كنعان صاحب الكتب الفارقة: «قرف»، «كأن لم يكن»، «على أنهار بابل»، «أولاً وآخراً وبين بين»، «مديرية كان وأخواتها»، والذي في مصر لا يعرفه أخيارنا، ولم يسمع باسمه أشرارنا. مصر ذات التبلات التي ذبلت أو تكاد تذبل وهي مغلقة على ذاتها.

تنبأ السيد فؤاد حداد، وهو غير الشاعر فؤاد حداد، تنبأ للكاتب العصبي أنسي الحاج بخير سيجنيه ذات يوم. كان هذيان أنسي ملجوماً وغير ملجوم، وكانت قصيدته عند البعض تشبه الحكاية، تشبه نشيد الإنشاد، هو يسميه نشيد الأناشيد، كانت قصيدته لا تتساهل ولا تقدم تنازلات أمام رغبات القراء، تتعمد اللامبالاة، وتحرث القلق والعبث، وتفيض بالحيل، حتى إن الخلاص كان حيلة. يرصد السريالي الآخر، المجنون الآخر، الألثغ كطفل، البريء كطفل. يرصد شوقي أبو شقرا زميله الذي شاركه مرة في كتابة قصائد «أين كنت يا سيدي في الحرب». يرصد شوقي لغة «لن» المليئة بالمرض والهذيان، والفكاهة القاحلة، واللذائذ المبعثرة والذكريات الجريئة. قصيدة أنسي تعلمت من نفسها ألا تعرف الميوعة. الميوعة التي أخطر آفات قصيدة النثر. فالذات عند أنسي ليست مائعة، على رغم أنها بئر بلا قرار، والعالم ليس مائعاً على رغم غموضه. رفض قصيدة أنسي للميوعة يتعزز برفض آخر لبدوية أو رعوية ظهرت عند آخرين، ورفض ثالث لتنسك صوفي مهما كان الشعور بالإثم حارقاً وصرفاً. بدأ أنسى في أكل الخبز الجاف، مثل أكله لثمرة اليقين المطلق، لثمرة الفرح. وكان وهو يقضم يحس وكأنه يصل إلى نبضة الكائن. نبضة الكائن في العضلة ذاتها، في الطريق ذاتها، طريق المخلص، الذي يسمح للإنسان فقط أن يحيي مأساة العالم، وسيسمح له أيضاً بإمكان الحياة وخلق الشعر، وكأن أنسي، وهو يخرج من نفسه ويدخل العالم، يدخل كواقعي، ولكن كواقعي من قماشة الواقعية الصوفية، كأنه يقدم فكراً - واقعاً في عجينته الأولى، في حالته الخام.

هل استطاع شعر أنسي في أطواره المختلفة أن يتعرف المرأة ذاتها، أم وضعها داخل إطاره، تحت آلته، بحيث تشبه كل شيء، تشمل كل شيء، تحيط بكل شيء، وتكون بؤرة كل شيء، وما لا تستطيعه أبداً هو أن تكون ذاتها؟ محيت المرأة ليتأكد الحب، خسارة فادحة، وربح فادح. أراد أن يوزع جسم المرأة على العالم، فلما لم يستطع ذلك، رغب في أن يفجره لتتكون من الشظايا، تلك المرأة الكون، تلك المرأة العالم، مع العلم أن مرجعية أنسي تستند إلى قوى هدم العالم، إلى اللاوعي الواعي بشعوذته وأحلامه، ولا منطقيته، وعلى النقيض من رفيقه الماغوط، الذي حملت عبارته كل الجينات الدالة على أصل، على ثقافة أنتجها هذا الأصل، على هوية، كان أنسي ينتصر بغياب مرجعيته على سلطة الهوية واستبدادها، وكان شعره بالتالي يقترب من حافة الهاوية، يقترب من أن يكون بغير أصل، يقترب من الشعر، من هذا الشعر. تخيلت مرة، وقد أوشك كتابه الأول أن يبلغ من العمر نصف القرن، تخيلت أنني أقابل أنسي وأحاوره، ولكنه أجاب على كل أسئلتي بإجابة واحدة، سألته: كيف ترى حرية البالغين، لماذا تنتشر في كل الأرض جثث قصيدة النثر، لماذا انحنى رأسك وأنت تنظر إلى أيامنا، وأنت تعبرها، وأنت تنظر خلفك، كانت إجابة أنسي الوحيدة هكذا، يزوم ويغمغم ويصمت، يزوم ويغمغم ويصمت.