ما الذي يوحِّد هذا الخليطَ المرعبَ من الأشلاءِ والأحلام، من الموتِ
والحياة، طموح الحياة في أن يحيا البشر بكامل إنسانيتهم، أحرارًا يمتلكون شمس
نهارهم، كما يمتلكون مصيرهم.
يقف الإنسان اليوم على حافةِ الجنون في هذه المنطقة بالذات، يقف على حافة
انفجاره، محتشدًا بغضبٍ لا حدودَ له وهو يراقب ظلامَ الغطرسة يفترس روحه وجسده
ويتسلى به ببطءٍ دام، يكفي أن يراقب المرءُ نفسه، شاعرًا كان أم فنانًا أم بائع
خضار، قليلا وهو يتتبع فصولَ مأساته الزاحفة، حين يشاهد الأخبار، أخبار المذبحة
المستمرة هنا وهناك.. يكفي ذلك ليرى نفسه فيما بعد، ودون أن يدري، ذاهبًا لتفقد
أطفاله واستدعاء وجوه أحبته وأصدقائه وأسماء الكتبِ التي يود أن يقرأها والشوارع
التي تمنى أن يسير فيها والمدن التي أحبها قبل أن يراها.
روح العالم أين تتجسد الآن؟ أين تسكن؟ وكيف تستطيع اليوم الحفاظَ على
براءتها في زمن القتل على الهواء مباشرة، والحفاظ على ارتفاعها في زمن الطائراتِ
العمودية التي تصر على أن تسوي كل شيء بالحضيض، لا بالأرض؟ أين يمكن أن تتوارى هذه
الروح القابضة على سحر جمالها، جمرةً، في زمن طائرات الشبحِ الخفية؟ وكأن العالم
كان بحاجة لشياطين جدد بأرديتهم الفضفاضةِ السوداء.
روح العالم أين يمكن أن تتجول اليوم في زمن اصطياد الأجنةِ على الحواجز
العسكرية والحدود المغلقة التي تحوّل حليب الأطفال إلى هدف استراتيجي لدبابات
ميركافا وصواريخ توما هوك واليورانيوم المنضب وغير المنضب.
روح العالم أين هي اليوم في زمن محاكم التفتيشِ الجديدة، في العصور التي
نعيش، في العصور التي نموت، العصور الأكثر حلكةً في تاريخِ البشر، العصور العار،
عصور القتل الجماعي على الهوية والدين ولون العيون، عصور العنصرية التي تتقدم
لاقتياد شعوب بأكملها ودول بأكملها وتحويلها إلى مزارع عبيد يعمل فيها البشر مقابل
الحصول على رائحةِ طعامهم لا أكثر؟
إبراهيم نصر الله
السيرة الطائرة
1 comment:
طبعًا أنا حاجزها .. أولي :)
Post a Comment