يجافيها النوم ليلاً. تروح وتغدو بين الجدران، تتبادل مع النوافذ وقفاتها وهي صامتة. تتعانق درجة حرارة جسدها لمرتفعة مع رائحة الفراغ وزخم الأفكار التي لا تنتهي فيصبح الليل بالنسبة لها عذاباً مقيماً ليس من سبيل لتفاديه. تزور الفراش عدة مرات. تحاول الاختباء بين ذراعيه فيشعر بها ويضمها إليه أكثر. تظل عيناها مفتوحتين بعناد وتفشل تماماً في أن تنظم حركة أنفاسها مع أنفاسه المنتظمة. تتقلب يميناً ويساراً فيسوء الوضع أكثر فتغادر الحجرة كلها قبل أن تنشر عدوى الأرق فيها.
تخرج للشرفة المظلمة. يبدو السواد كئيباً خاصة مع انعدام الأصوات واختفاء القمر وأجنحة الوحدة المشرعة حولها فتعود للجدران من جديد. تحاول أن تقرأ، تنشغل بالصفحات لفترة حتى يفزعها صوت المؤذن الذي انطلق فجأة. تتذكر أن صنبور المياه مازال جافاً، لأن هذا هو موعد انقطاع المياه المعتاد.. من منتصف الليل وحتى الصباح. تتوضأ بالمياه القليلة التي ادخرتها منذ نهار اليوم السابق وتصلي.
تعود للقراءة لكنها تجد أن الملل قد تمدد على الصفحات بكل الزوايا أمامها فتلقي بالكتاب بعيداً. تفكر في العودة للفراش مجدداً وتطرد الفكرة لأن النوم الآن أبعد ما يكون عن جفنيها. يقتلها شعورها بالاختلاف والوحدة والذنب لأن أبسط الأشياء كالنوم ليلاً في أحضان زوجها تبدو مستحيلة بالنسبة لها الآن.
تتذكر وقت أن كانت تنتظر الليل بفارغ صبرها كي تحادثه طويلاً ثم تبدأ في محادثة الورق بعدها. لماذا توقفت الكلمات عن التحدث إليها؟ لماذا هجرتها؟ منذ زمن توقفت رغم وفرة وقت الفراغ و ازدحام عقلها.
تختنق وتبكي.. ثم تتوقف فجأة لتقتطع ورقة من دفتر وصفات الطهي الذي صارت تضعه أمامها دائماً. تشعر باللامبالاة والجرأة وهي تردد لنفسها"هشخبط، هكتب أي حاجة ان شالله أرسم حتى". تتسمر كثيراً، ترسم وروداً صغيرة بلا عناقيد وتتذكر فجأة أمنيتها في أن تكون مصممة فساتين زفاف. تبدأ في رسم مخطوطاً ينتهي إلى شكل غير مفهوم لفستان طفولي كالذي كانت تغطي به رسوماتها وهي صغيرة. تقرر أن تحتفظ بالرسمة لتذكر نفسها يوماً أنها حاولت.
أفكار عشوائية تظهر لها فجأة. تكتبها كلها بسرعة ثم تتوقف لتقرأها.. تكتشف أنها نصبت نفسها فيلسوفة وحكيمة في نفس الوقت، تكتب بصيغة "نحن" وتعمم كل القيم والأفكار في خيط فلسفي ساذج لا نهاية له. تبرق لها جملة واحدة تمسها فعلاً، تقرر ألا تنتظر بقية السيل فتكتبها فوراً. تلاحظ أن معظم كتاباتها عنها.. تدرك أنها وبعد كل ما فات مازالت لا تعرف أحداً سواها.
يعاندها القلم كثيراً، تكتب جملاً كثيرة لا تشعر بأي منها فعلاً، وكأنها تفكر بشيء فينتج شيئاً مغايراً له تماماً. تقرر أن تستكمل الكتابة رغم ما يحدث على سبيل التغيير. تتلاحق الكلمات سريعاً، تبدأ في الرضا أخيراً عن سطر كتبته كما كانت تريد. تستمر الكتابة و يزيد تقبلها لسطر آخر، لفقرة ثم لصفحات متتالية انهمرت كالمطر لا تعرف من أين. تتوقف وحبات العرق على جبينها، تكتشف أنها سودت أكثر من 6 صفحات بفقرات كثيرة تشعرها بالكمال وبأنها هي من جديد. تكتشف أيضاً نور الصباح الذي غافلها وغمر كل جدران البيت بالأبيض وصوت المياه الذي صار مسموعاً وهي تتدفق من صنبور كان جافاً منذ ساعات.
ملكة بدر
27 يوليو 2009
4 comments:
السلام عليكم
هاي اول زيارة لي لمدونتك الجميله جدا
موضوع جيد ومدونه رائعة
وفقك الله
تحياتي
اشراقة أمل
حمدا لله علي لسلامة:)
أنا مبسوطة:)
برفكت يا ملكة
يمكن أمتع حاجة في النص , الأحداث الموازية الهامشية ,الأرق والخواء المتزامن مع انقطاع الماء
ييجي في آخر الحدث تتدفق الكتابة مع الماء مع ضياء الصباح
صورة رمزية كويسة ومفهومة
تحياتي
رااااائعة جدا....
حلوة اوي قد ما فيها يأس و انتظار ..قد ما فيها طاقة نور وامل هايلة في الاخر
تسلم ايدك بجد..
Post a Comment